فصل: سنة ست وأربعين ومائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر ظهور إبراهيم بن عبد الله بن الحسن أخي محمد:

فيها كان ظهور إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وهو أخو محمد، المقدم ذكره، وكان قبل ظهوره قد طلب أشد الطلب، فحكت جاريةٌ له أنه لم تقرهم أرضٌ خمس سنين، مرةً بفارس ومرةً بكرمان ومرةً بالجبل ومرةً بالحجاز ومرةً باليمن ومرةً بالشام، ثم إنه قدم الموصل وقدمها المنصور في طلبه، فحكى إبراهيم قال: اضطرني الطلب بالموصل حتى جلست على مائدة المنصور ثم خرجت وقد كف الطلب؛ وكان قوم من أهل العسكر يتشيعون فكتبوا إلى إبراهيم يسألونه القدوم إليهم ليثبوا بالمنصور، فقدم عسكر أبي جعفر وهو ببغداد وقد خطها، وكانت له مرآة ينظر فيها فيرى عدوه من صديقه، فنظر فيها فقال: يا مسيب قد رأيت إبراهيم في عسكري وما في الأرض أعدى لي منه، فانظر أي رجل يكون.
ثم إن المنصور أمر ببناء قنطرة الصراة العتيقة، فخرج إبراهيم ينظر إليها مع الناس، فوقعت عليه عين المنصور، فجلس إبراهيم وذهب في الناس فأتى قامياً فلجأ إليه، فأصعده غرفة له، وجد المنصور في طلبه ووضع الرصد بكل مكان، فنشب إبراهيم مكانه، فقال له صاحبه سفيان بن حيان القمي: قد نزل بنا ما ترى ولا بد من المخاطرة. قال: فأنت وذاك. فأقبل سفيان إلى الربيع فسأله الإذن على المنصور، فأدخله عليه، فلما رآه شتمه، فقال: يا أمير المؤمنين أنا أهلٌ لما تقول، غير أني أتيتك تائباً ولك عند كل ما تحب، وأنا آتيك بإبراهيم بن عبد الله، إني قد بلوتهم فلم أجد فيهم خيراً، فاكتب لي جوازاً ولغلامٍ معي يحملني على البريد ووجه معي جنداً. فكتب له جوازاً ودفع إليه جنداً وقال: هذا ألف دينار فاستعن بها. قال: لا حاجة لي فيها، وأخذ منها ثلاثمائة دينار وأقبل والجند معه فدخل البيت، وعلى إبراهيم جبة صوف وقباءٌ كأقبية الغلمان، فصاح به، فوثب وجعل يأمره وينهاه، وسار على البريد.
وقيل: لم يركب البريد.
وسار حتى قدم المدائن، فمنعه صاحب القنطرة بها، فدفع جوازه إليه، فلما جازها قال له الموكل بالقنطرة: ما هذا غلام وإنه لإبراهيم بن عبد الله، اذهب راشداً، فأطلقهما، فركبا سفينة حتى قدما البصرة، فجعل يأتي بالجند الدار لها بابان فيقعد البعض منهم على أحد البابين ويقول: لا تبرحوا حتى آتيكم، فيخرج من الباب الآخر ويتركهم، حتى فرق الجند عن نفسه وبقى وحده.
وبلغ الخبر سفيان بن معاوية أمير البصرة، فأرسل إليهم فجمعهم، وطلب القمي فأعجزه، وكان إبراهيم قد قدم الاهواز قبل ذلك واختفى عند الحسن ابن خبيب، وكان محمد بن الحصين يطلبه، فقال يوماً: إن أمير المؤمنين كتب إلي يخبرني أن المنجمين أخبروه أن إبراهيم نازلٌ بالأهواز في جزيرة بين نهرين، وقد طلبته في الجزيرة وليس هناك، وقد عزم أن أطلبه غداً بالمدينة، لعل أمير المؤمنين يعني بقوله بين نهرين بين دجيل والمسرقان. فرجع الحسن بن خبيب إلى إبراهيم فأخبره وأخرجه إلى ظاهر البلد، ولم يطلبه محمد ذلك اليوم.
فلما كان آخر النهار خرج الحسن إلى إبراهيم فأدخله البلد، وهما على حمارين، وقت العشاء الآخرة، فلقيه أوائل خيل ابن الحصين، فنزل إبراهيم عن حماره كأنه يبول، فسأل ابن الحصين الحسن بن خبيب عن مجيئه، فقال: من عند بعض أهلي. فمضى وتركه. ورجع الحسن إلى إبراهيم فأركبه وأدخله إلى منزله، فقال له إبراهيم: والله لقد بلت دماً. قال: فأتيت الموضع فرأيته قد بال دماً.
ثم إن إبراهيم قدم البصرة، فقيل: قدمه سنة خمس وأربعين بعد ظهور أخيه محمد بالمدينة، وقيل: قدمها سنة ثلاث وأربعين ومائة، وكان الذي أقدمه وتولى كراه، في قول بعضهم، يحيى بن زياد بن حيان النبطي وأنزله في داره في بني ليث، وقيل: نزل في دار أبي فروة، ودعا الناس إلى بيعة أخيه؛ وكان أول من بايعه نميلة بن مرة العبشمي، وعفو الله بن سفيان، وعبد الواحد بن زياد، وعمرو بن سلمة الهجيمي، وعبد الله بن يحيى بن حصين الرقاشي، وندبوا الناس، فأجابهم المغيرة بن الفزع وأشباهٌ له، وأجابه أيضاً عيسى بن يونس، ومعاذ بن معاذ، وعباد بن العوام، وإسحاق بن يوسف الأزرق، ومعاوية بن هشيم بن بشير، وجماعة كثيرة من الفقهاء وأهل العلم، حتى أحصى ديوانه أربعة آلاف. وشهر أمره، فقالوا له: لو تحولت إلى وسط البصرة أتاك الناس وهم مستريحون. فتحول فنزل دار أبي مروان مولى بني سليم في مقبرة بني يشكر، وكان سفيان بن معاوية قد مالأ على أمره.
ولما ظهر أخوه محمد كتب إليه يأمره بالظهور، فوجم لذلك واغتم، فجعل بعض أصحابه يسهل عليه ذلك وقال له: قد اجتمع لك أمرك فتخرج إلى السجن فتكسره من الليل فتصبح وقد اجتمع لك عالمٌ من الناس. وطابت نفسه، وكان المنصور بظاهر الكوفة، كما تقدم، في قلةٍ من العساكر، وقد أرسل ثلاثةً من القواد إلى سفيان بن معاوية بالبصرة مدداً ليكونوا عوناً له على إبراهيم إن ظهر.
فلما أراد إبراهيم الظهور أرسل إلى سفيان فأعلمه، فجمع القواد عنده، وظهر إبراهيم أول شهر رمضان سنة خمس وأربعين ومائة فغنم دواب أولئك الجند وصلى بالناس الصبح في الجامع وقصد دار الإمارة وبها سفيان متحصناً في جماعة فحصره، وطلب سفيان منه الأمان فآمنه إبراهيم ودخل الدار ففرشوا له حصيراً، فهبت الريح فقلبته قبل أن يجلس، فتطير الناس بذلك، فقال إبراهيم: إنا لا نتطير. وجلس عليه مقلوباً وحبس القواد وحبس أيضاً سفيان ابن معاوية في القصر وقيده بقيدٍ ليعلم المنصور أنه محبوس.
وبلغ جعفراً ومحمداً ابني سليمان بن علي ظهور إبراهيم، فأتيا في ستمائة رجل، فأرسل إليهما إبراهيم المضاء بن القاسم الجزري في خمسين رجلاً، فهزمهما، ونادى منادي إبراهيم: لا يتبع مهزوم ولا يذفف على جريح.
ومضى إبراهيم بنفسه إلى باب زينب بنت سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس، وإليها ينسب الزينبيون من العباسيين، فنادى بالأمان وأن لا يعرض لهم أحد، فصفت له البصرة، ووجد في بيت مالها ألفي ألف درهم، فقوي بذلك وفرض لأصحابه لكل رجل خمسين خمسين.
فلما استقرت له البصرة أرسل المغيرة إلى الأهواز، فبلغها في مائتي رجل، وكان بها محمد بن الحصين عاملاً للمنصور، فخرج إليه في أربعة آلاف فالتقوا، فانهزم ابن الحصين ودخل المغيرة الأهواز، وقيل: إنما وجه المغيرة بعد مسيره إلى باخمرى، وسير إبراهيم إلى فارس عمرو بن شداد، فقدمها وبها إسماعيل وعبد الصمد ابنا علي بن عبد الله بن عباس، فبلغهما دنو عمرو وهما بإصطخر، فقصدا دار ابجرد فتحصنا بها، فصارت فارس في يد عمرو، وأرسل إبراهيم مروان بن سعيد العجلي في سبعة عشر ألفاً إلى واسط، وبها هارون بن حميد الإيادي من قبل المنصور، فملكها العجلي، وأرسل المنصور لحربه عامر بن إسماعيل المسلي في خمسة آلاف، وقيل: في عشرين ألفاً، فكانت بينهم وقعات ثم تهادنوا على ترك الحرب حتى ينظروا ما يكون من إبراهيم والمنصور، فلما قتل إبراهيم هرب مروان ابن سعيد عنهما فاختفى حتى مات.
فلم يزل إبراهيم بالبصرة يفرق العمال والجيوش حتى أتاه نعي أخيه محمد قبل عيد الفطر بثلاثة أيام، فخرج بالناس يوم العيد وفيه الانكسار فصلى بهم وأخبرهم بقتل محمد، فازدادوا في قتال المنصور بصيرةً، وأصبح من الغد فعسكر واستخلف على البصرة نميلة وخلف ابنه حسناً معه.

.ذكر مسير إبراهيم وقتله:

ثم إن إبراهيم عزم على المسير، فأشار أصحابه البصريون أن تقيم وترسل الجنود، فيكون إذا انهزم لك جند أمددتهم بغيرهم فخيف مكانك واتقاك عدوك وجبيت الأموال وثبت وطأتك. فقال من عنده من أهل الكوفة: إن بالكوفة أقواماً لو رأوك ماتوا دونك، وإن لم يروك قعدت بهم أسباب شتى. فسار على البصرة إلى الكوفة.
وكان المنصور لما بلغه ظهور إبراهيم في قلة من العسكر قال: والله ما أدري كيف أصنع! ما في عسكري إلا ألفا رجل، فرقت جندي: مع المهدي بالري ثلاثون ألفاً، ومع محمد بن الأشعث بإفريقية أربعون ألفاً، والباقون مع عيسى بن موسى، والله لئن سلمت من هذه لا يفارق عسكري ثلاثون ألفاً.
ثم كتب إلى عيسى بن موسى يأمره بالعود مسرعاً، فأتاه الكتاب وقد أحرم بعمرةٍ، فتركها وعاد. وكتب إلى سلم بن قتيبة فقدم عليه من الري، فقال له المنصور: اعمد إلى إبراهيم ولا يروعنك جمعه، فوالله إنهما جملا بني هاشم المقتولان! فثق بما أقول. وضم إليه غيره من القواد. وكتب إلى المهدي يأمره بإنفاذ خزيمة بن خازم إلى الأهواز، فسيره في أربعة آلاف فارس، فوصلها وقاتل المغيرة، فرجع المغيرة إلى البصرة، واستباح خزيمة الأهواز ثلاثاً.
وتوالت على المنصور الفتوق من البصرة والأهواز وفارس وواسط والمدائن والسواد، وإلى جانبه أهل الكوفة في مائة ألف مقاتل ينتظرون به صيحةً، فلما توالت الأخبار عليه بذلك أنشد:
وجعلت نفسي للرماح دريئةً ** إنّ الرئيس لمثل ذاك فعول

ثم إنه رمى كل ناحية بحجرها، وبقي المنصور على مصلاه خمسين يوماً ينام عليه، وجلس عليه وعليه جبة ملونة قد اتسخ جيبها لا غيرها ولا هجر المصلى، إلا أنه كان إذا ظهر للناس لبس السواد فإذا فارقهم رجع إلى هيئته. وأهديت إليه امرأتان من المدينة، إحداهما فاطمة بنت محمد بن عيسى بن طلحة بن عبيد الله، والأخرى أم الكريم ابنة عبد الله من ولد خالد بن أسيد، فلم ينظر إليهما، فقيل له: إنهما قد ساءت ظنونهما. فقال: ليست هذه أيام نساء ولا سبيل إليهما حتى أنظر رأس إبراهيم لي أو رأسي له.
قال الحجاج بن قتيبة: لما تتابعت الفتوق على المنصور دخلت مسلماً عليه وقد أتاه خبر البصرة والأهواز وفارس، وعساكر إبراهيم قد عظمت، وبالكوفة مائة ألف سيف بإزاء عسكره ينتظر صيحة واحدة فيثبون به، فرأيته أحوذياً مشمراً قد قام إلى ما نزل به من النوائب يعركها فقام بها ولم تقعد به نفسه، وإنه كما قال الأول:
نفس عصامٍ سوّدت عصاما

وعلّمته الكرّ والإقداما

وصيّرته ملكاً هماما

ثم وجه المنصور إلى إبراهيم عيسى بن موسى في خمسة عشر ألفاً، وعلى مقدمته حميد بن قحطبة في ثلاثة آلاف، وقال له لما ودعه: إن هؤلاء الخبثاء، يعني المنجمين، يزعمون أنك إذا لاقيت إبراهيم يجول أصحابك جولةً حتى تلقاه ثم يرجعون إليك وتكون العاقبة لك.
ولما سار إبراهيم عن البصرة مشى ليلته في عسكره سراً فسمع أصوات الطنابير، ثم فعل ذلك مرة أخرى فسمعها أيضاً، فقال: ما أطمع في نصر عسكر فيه مثل هذا! وسمع ينشد في طريقه أبيات القطامي:
أمورٌ لو يدبّرها حليمٌ ** إذاً لنهى وهيّب ما استطاعا

ومعصية الشقيق عليك ممّا ** يزيدك مرّة منه استماعا

وخير الأمر ما استقبلت منه ** وليس بأن تتبّعه اتّباعا

ولكنّ الأديم إذا تفرّى ** بلىً وتعيباً غلب الصّناعا

فعلموا أنه نادم على مسيره.
وكان ديوانه قد أحصى مائة ألف، وقيل: كان معه في طريقه عشرة آلاف، وقيل له في طريقه ليأخذ غير الوجه الذي فيه عيسى ويقصد الكوفة فإن المنصور لا يقوم له وينضاف أهل الكوفة إليه ولا يبقى للمنصور مرجع دون حلوان، فلم يفعل. فقيل له ليبيت عيسى. فقال: أكره البيات إلا بعد الإنذار. وقال بعض أهل الكوفة ليأمره بالمسير إليها ليدعو إليه الناس وقال: أدعوهم سراً ثم أجهر، فإذا سمع المنصور الهيعة بأرجاء الكوفة لم يرد وجهه شيء دون حلوان. فاستشار بشيراً الرحال فقال: لو وثقنا بالذي تقول لكان رأياً، ولكنا لا نأمن أن تجيئك منهم طائفة فيرسل إليهم المنصور الخيل فيأخذ البريء والصغير والمرأة فيكون ذلك تعرضاً للمأثم. فقال الكوفي: كأنكم خرجتم لقتال المنصور وأنتم تتقون قتل الضعيف والمرأة والصغير! أولم يكن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يبعث سراياه ليقاتل ويكون نحو هذا؟ فقال بشير: أولئك كفار وهؤلاء مسلمون.
وابتع إبراهيم رأيه وسرا حتى نزل باخمرى، وهي من الكوفة على ستة عشر فرسخاً، مقابل عيسى بن موسى، فأرسل إليه سلم بن قتيبة: إنك قد أصحرت ومثلك أنفس به عن الموت، فخندق على نفسك حتى لا تؤتى إلا من مأتى واحد، فإن أنت لم تفعل فقد أغرى أبو جعفر عسكره، فتخفف في طائفة حتى تأتيه فتأخذه بقفاه. فدعا إبراهيم أصحابه وعرض عليهم ذلك؛ فقالوا: نخندق على أنفسنا ونحن الظاهرون عليهم! لا والله لا نفعل. قال: فنأتي أبا جعفر. قالوا: ولم وهو في أيدينا متى أردناه؟ فقال إبراهيم للرسول: أتسمع؟ فارجع راشداً.
ثم إنهم تصافوا، فصف إبراهيم أصحابه صفاً واحداً، فأشار عليه بعض أصحابه بأن يجعلهم كراديس، فإذا انهزم كردوس ثبت كردوس، فإن الصف إذا انهزم بعضه تداعى سائره. فقال الباقون: لا نصف إلا صف أهل الإسلام، يعني قول الله تعالى: {إنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيِلِهِ صَفّاً} الآية الصف: 4.
فاقتتل الناس قتالاً شديداً وانهزم حميد بن قحطبة وانهزم الناس معه، فعرض لهم عيسى يناشدهم الله والطاعة فلا يلوون عليه. فأقبل حميد منهزماً، فقال له عيسى: الله الله والطاعة! فقال: لا طاعة في الهزيمة! ومر الناس فلم يبق مع عيسى إلا نفر يسير، فقيل له: لو تنحيت عن مكانك حتى تؤوب إليك الناس فتكر بهم. فقال: لا أزول عن مكاني هذا أبداً حتى أقتل أو يفتح الله على يدي، والله لا ينظر أهل بيتي إلى وجهي أبداً وقد انهزمت عن عدوهم! وجعل يقول لمن يمر به: أقريء أهل بيتي السلام وقل لهم لم أجد فداً أفديكم به أعز من نفسي وقد بذلتها دونكم! فبيناهم على ذلك لا يلوي أحد على أحد إذ أتى جعفر ومحمد ابنا سليمان ابن علي من ظهور أصحاب إبراهيم، ولا يشعر باقي أصحابه الذين يتبعون المنهزمين حتى نظر بعضهم فرأى القتال من ورائهم فعطفوا نحوه، ورجع أصحاب المنصور يتبعونهم، فكانت الهزيمة على أصحاب إبراهيم، فلولا جعفر ومحمد لتمت الهزيمة، وكان من صنع الله للمنصور أن أصحابه لقيهم نهر في طريقهم فلم يقدروا على الوثوب ولم يجدوا مخاضة، فعادوا بأجمعهم، وكان أصحاب إبراهيم قد مخروا الماء ليكون قتالهم من وجه واحد، فلما انهزموا منعهم الماء من الفرار، وثبت إبراهيم في نفر من أصحابه يبلغون ستمائة، وقيل أربعمائة، وقاتلهم حميد وجعل يرسل بالرؤوس إلى عيسى، وجاء إبراهيم سهمٌ عائر فوقع في حلقه فنحره، فتنحى عن موقفه وقال: أنزلوني، فأنزلوه عن مركبه وهو يقول: {وَكَانَ أمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً} الأحزاب: 38، أردنا أمراً وأراد الله غيره.
واجتمع عليه أصحابه وخاصته يحمونه ويقاتلون دونه، فقال حميد بن قحطبة لأصحابه: شدوا على تلك الجماعة حتى تزيلوهم عن موضعهم وتعلموا ما اجتمعوا عليه؛ فشدوا عليهم فقاتلوهم أشد قتال حتى أفرجوهم عن إبراهيم ووصلوا إليه وحزوا رأسه فأتوا به عيسى، فأراه ابن أبي الكزام الجعفري فقال: نعم هذا رأسه. فنزل عيسى إلى الأرض فسجد وبعث برأسه إلى المنصور.
وكان قتله يوم الأثنين لخمس ليالٍ بقين من ذي القعدة سنة خمس وأربعين ومائة، وكان عمره ثمانياً وأربعين سنة، ومكث منذ خرج إلى أن قتل ثلاثة أشهر إلا خمسة أيام.
وقيل: كان سبب انهزام أصحابه أنهم لما هزموا أصحاب المنصور وتبعوهم ونادى منادي إبراهيم: ألا لا تتبعوا مدبراً! فرجعوا، فلما رآهم أصحاب المنصور راجعين ظنوهم منهزمين فعطفوا في آثارهم، وكانت الهزيمة.
وبلغ المنصور الخبر بهزيمة أصحابه أولاً فعزم على إتيان الري، فأتاه نوبخت المنجم وقال: يا أمير المؤمنين الظفر لك وسيقتل إبراهيم! فلم يقبل منه. فبينما هو كذلك إذ جاءه الخبر بقتل إبراهيم، فتمثل:
فألقت عصاها واستقرّ بها النّوى ** كما قرّ عيناً بالإياب المسافر

فأقطع المنصور نوبخت ألفي جريب بنهر حويزة.
وحمل رأس إبراهيم إلى المنصور فوضع بين يديه، فلما رآه بكى حتى خرجت دموعه على خد إبراهيم ثم قال: أما والله إني كنت لهذا كارهاً! ولكنك ابتليت بي وابتليت بك! ثم جلس مجلساً عاماً وأذن للناس. فكان الداخل يدخل فيتناول إبراهيم ويسيء القول فيه ويذكر فيه القبيح التماساً لرضاء المنصور، والمنصور ممسك متغير لونه، حتى دخل جعفر بن حنظلة الدارمي فوقف فسلم ثم قال: أعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين في ابن عمك، وغفر له ما فرط فيه من حقك! فأسفر لون المنصور وأقبل عليه وقال: يا أبا خالد مرحباً ها هنا! فعلم الناس أن ذلك يرضيه، فقاتلوا مثل قوله.
وقيل: لما وضع الرأس بصق في وجهه رجل من الحرس، فأمر به المنصور فضرب بالعمد فهشمت أنفه ووجهه، وضرب حتى خمد، وأمر به فجروا رجله فألقوه خارج الباب.
وقي: ونظر المنصور إلى سفيان بن معاوية بعد مدة راكباً فقال: لله العجب كيف يفلتني ابن الفاعلة! انقضى أمر إبراهيم رضي الله عنه.

.ذكر عدة حوادث:

وفيها خرجت الترك والخزر بباب الأبواب فقتلوا من المسلمين بأرمينية جماعة كثيرة.
وحج بالناس هذه السنة السري بن عبد الله بن الحارث بن العباس، وكان على مكة، وكان على المدينة عبد الله بن الربيع، وعلى الكوفة عيسى بن موسى، وعلى البصرة سلم بن قتيبة الباهلي، وعلى قضائها عباد بن منصور، وعلى مصر يزيد بن حاتم.
وفيها عزل المنصور مالك بن الهيثم عن الموصل بابنه جعفر بن أبي جعفر المنصور وسير معه حرب بن عبد الله، وهو من أكابر قواده، وهو صاحب الحربية ببغداد، وبنى بأسفل الموصل قصراً وسكنه، فهو يعرف إلى اليوم بقصر حرب، وفيه ولدت زبيدة بنت جعفر زوجة الرشيد، وعنده يومنا هذا قرية كانت ملكاً لنا فبنينا فيها رباطاً للصوفية وقفنا القرية عليه، قد جمعت كثيراً من هذا الكتاب في هذه القرية في دار لنا بها، وهي من أنزه المواضع وأحسنها، وأثر القصر باقٍ بها إلى الآن. سبحان من لا يزول ولا تغيره الدهور.
وفيها مات عمرو بن ميمون بن مهران. والحسن بن الحسن بن علي ابن أبي طالب، وكان موته في حبس المنصور، لأنه أخذه من المدينة، كما ذكرناه، وهو عم محمد وإبراهيم. وفيها مات عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي، ويحيى بن الحارث الذماري، وله سبعون سنة. وإسماعيل بن أبي خالد البجلي، وحبيب بن الشهيد مولى الأزد، وكنيته أبو شهيد. ثم دخلت:

.سنة ست وأربعين ومائة:

.ذكر انتقال المنصور إلى بغداد وكيفية بنائها:

وفيها، في صفر، تحول المنصور من مدينة ابن هبيرة إلى بغداد وبنى مدينتها، وقد ذكرنا في سنة خمس وأربعين ومائة السبب الباعث للمنصور على بناء مدينة بغداد، ونذكر الآن بناءها.
ولما عزم المنصور على بناء بغداد شاور أصحابه، وكان فيهم خالد بن برمك، فأشار أيضاً بذلك، وهو خطها، فاستشاره في نقض المدائن وإيوان كسرى ونقل نقضها إلى بغداد، فقال: لا أرى ذلك، لأنه علم من أعلام الإسلام يستدل به الناظر على أنه لم يكن ليزال مثل أصحابه عنه بأمر الدنيا، وإنما هو على أمر دين، ومع هذا ففيه مصلى علي بن أبي طالب. قال المنصور: لا، أبيت يا خالد إلا الميل إلى أصحابك العجم! وأمر بنقض القصر الأبيض، فنقضت ناحية منه وحمل نقضه، فنظر، فكان مقدار ما يلزمهم له أكثر من ثمن الحديد. فدعا خالد بن برمك فأعلمه ذلك، فقال: يا أمير المؤمنين قد كنت أرى أن لا تفعل، فأما إذ فعلت فإني أرى أن تهدم لئلا يقال إنك عجزت عن هدم ما بناه غيرك. فأعرض عنه وترك هدمه.
ونقل أبواب مدينة واسط فجعلها على بغداد، وباباً جيء به من الشام، وباباً آخر جيء به من الكوفة كان عمله خالد بن عبد الله القسري؛ وجعل المدينة مدورةً لئلا يكون بعض الناس أقرب إلى السلطان من بعض، وعمل لها سورين، السور الداخل أعلى من الخارج، وبنى قصره في وسطها، والمسجد الجامع بجانب القصر، وكان الحجاج بن أرطأة هو الذي خط المسجد وقبلته غير مستقيمة يحتاج المصلي أن ينحرف إلى باب البصرة لأنه وضع بعد القصر، وكان القصر غير مستقيم على القبلة.
وكان اللبن الذي يبنى به ذراعاً في ذراع، ووزن بعضها لما نقض، وكان وزن لبنة منه مائة رطل وستة عشر رطلاً، وكانت مقاصير جماعة من قواد المنصور وكتابه تشرع أبوابها إلى رحبة الجامع، فطلب إليه عمه عيسى ابن علي أن يأذن له في الركوب من باب الرحبة إلى القصر لضعفه، فلم يأذن له، قال: فاحسبني راوية، فأمر الناس بإخراج أبوابهم من الرحبة إلى فصلان الطاقات.
وكانت الأسواق في المدينة، فجاء رسول الله لملك الروم، فأمر الربيع فطاف به في المدينة، فقال: كيف رأيت؟ قال: رأيت بناء حسناً إلا أني رأيت أعداءك معك وهم السوقة. فلما عاد الرسول عنه أمر بإخراجهم إلى ناحية الكرخ.
وقيل: إنما أخرجهم لأن الغرباء يطرقونها ويبيتون فيها وربما كان فيهم الجاسوس.
وقيل: إن المنصور كان يتبع من خرج مع إبراهيم بن عبد الله، وكان أبو زكرياء يحيى بن عبد الله، محتسب بغداد، له مع إبراهيم ميل، فجمع جماعةً من السفلة فشغبوا على المنصور، فسكنهم وأخذ أبا زكرياء فقتله وأخرج الأسواق، فكلم في بقال، فأمر أن يجعل في كل ربع بقال يبيع البقل والخل حسب.
وجعل الطريق أربعين ذراعاً.
وكان مقدار النفقة على بنائها وبناء المسجد والقصر والأسواق والفصلان والخنادق وأبوابها أربعة آلاف ألف وثمانمائة وثلاثة درهماً.
وكان الأستاذ من البنائين يعمل يومه بقيراط فضة، والروزكاري بحبتين، وحاسب القواد عند الفراغ منها فألزم كلاً منهم بما بقي عنده فأخذه، حتى إن خالد بن الصلت بقي عليه خمسة عشر درهماً فحبسه وأخذها منه.

.ذكر خروج العلاء بالأندلس:

وفيها سار العلاء بن مغيث اليحصبي من إفريقية إلى مدينة بناحية من الأندلس ولبس السواد وقام بالدولة العباسية وخطب للمنصور، واجتمع إليه خلقٌ كثير، فخرج إليه الأمير عبد الرحمن الأموي، فالتقيا بنواحي إشبيلية، ثم تحاربا أياماً، فانهزم العلاء وأصحابه، وقتل منهم في المعركة سبعة آلاف، وقتل العلاء، وأمر بعض التجار بحمل رأسه ورؤوس جماعة من مشاهير أصحابه إلى القيروان وإلقائها بالسوق سراً، ففعل ذلك، ثم حمل منها شيء إلى مكة، فوصلت وكان بها المنصور، وكان مع الرؤوس لواء أسود وكتاب كتبه المنصور للعلاء.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة عزل سلم بن قتيبة عن البصرة.
وكان سبب عزله أن المنصور كتب إليه يأمره بهدم دور من خرج مع إبراهيم وبعقر نخلهم؛ فكتب سلم: بأي ذلك أبدأ، بالدور أم بالنخل؟ فأنكر المنصور ذلك عليه وعزله واستعمل محمد بن سليمان، فعاث بالبصرة وهدم دار أبي مروان، ودار عون بن مالك، ودار عبد الواحد بن زياد وغيرهم.
وغزا الصائفة هذه السنة جعفر بن حنظلة البهراني.
وفيها عزل عن المدينة عبد الله بن الربيع الحارثي، وولي مكانه جعفر بن سليمان، فقدمها في ربيع الأول. وفيها عزل عن مكة السري بن عبد الله ووليها عبد الصمد بن علي.
وحج بالناس هذه السنة عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام.
وفيها مات هشام بن عروة بن الزبير، وقيل سنة سبع وأربعين في شعبان. وعوف الأعرابي. وطلحة بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله التميمي الكوفي.
وفيها غزا مالك بن عبد الله الخثعمي، الذي يقال له مالك الصوائف، وهو من أهل فلسطين، بلاد الروم فغنم غنائم كثيرة ثم قفل، فلما كان من درب الحدث على خمسة عشر ميلاً بموضع يدعى الرهوة نزل بها ثلاثاً وباع الغنائم وقسم سهام الغنيمة، فسميت تلك الرهوة رهوة مالك.
وفيها توفي ابن السائب الكلبي النسابة. ثم دخلت: